مقابلة | "عصابات الإجرام تغذت من غياب الشرطة.. ونسبة الجريمة لدى العرب 68%"

يشهد المجتمع العربي تصاعدا خطيرا في العنف والجريمة في ظل تقاعس وتواطؤ الشرطة مع عصابات الإجرام، إذ قتل منذ مطلع الأسبوع الجاري 3 أشخاص في جرائم إطلاق نار بينهم الصحافي نضال إغبارية (44 عاما)

مقابلة |

تظاهرة في أم الفحم بعد مقتل الصحافي إغبارية (Gettyimages)

يشهد المجتمع العربي تصاعدا خطيرا في العنف والجريمة في ظل تقاعس وتواطؤ الشرطة مع عصابات الإجرام، إذ قتل منذ مطلع الأسبوع الجاري 3 أشخاص في جرائم إطلاق نار بينهم الصحافي نضال إغبارية (44 عاما) في أم الفحم ومنار الهواري (34 عاما) وابنتها خضرة الهواري (14 عاما) في مدينة اللد.

وتضاف جرائم القتل، إلى أحداث عنف وجرائم إطلاق نار لا متناهية في البلدات العربية، يسفر عنها إصابات بشرية وأضرار في الممتلكات، في الوقت الذي تتقاعس فيه الشرطة عن القيام بدورها في لجم الظاهرة التي باتت تهدد مجتمعا بأكمله.

وبلغت حصيلة ضحايا جرائم القتل في البلدات العربية، منذ مطلع العام الجاري ولغاية الآن، 72 قتيلا بينهم 9 نساء عربيات، فيما قتل 111 شخصا بينهم 16 امرأة في العام 2021 الماضي؛ لا تشمل ضحايا الجرائم التي وقعت في مدينة القدس وهضبة الجولان المحتلتين.

من مكان جريمة القتل في اللد (تصوير الشرطة)

وبهذا الصدد، حاور "عرب 48" رئيس قسم المجتمع العربي في مؤسسة "شموئيل نئمان" في معهد التخنيون والمحاضر في كلية الجليل الغربي وجامعة حيفا، د. نهاد علي، والذي لديه العديد من الكتب والدراسات المتعلقة في قضايا العنف والجريمة بالمجتمع العربي.

"عرب 48": نلحظ في الأيام الأخيرة تصاعدا بمستوى الجريمة والعنف في المجتمع العربي، إذ قتل صحافي وامرأة مع ابنتها فيما نجت طفلتها الأخرى بأعجوبة؛ هل لنا أن نضع الإصبع على الجرح النازف لتحديد أسباب العنف والجريمة في المجتمع العربي؟

د. علي: الأبحاث التي أجريناها هي كالتالي: لدينا مؤشر الأمان الشخصي والجماعي للمواطنين العرب في إسرائيل، الذي أجريناه بالشراكة ما بين مؤسسة "شموئيل نئمان" في معهد العلوم التطبيقية "التخنيون" و"مبادرات صندوق إبراهيم"، والذي بدأناه منذ العام 2017 ولغاية 2021 ولدينا أيضا مؤشر العنف في المدن المختلطة وأجريناه بنفس الشراكة، ولدينا أيضا بحث خاص على مدينة أم الفحم كنموذج وهو بحث معمق، وبذلك يكون لدينا صورة شاملة وكافية ليصدر عنها مجموعة كتب بحثية.

قضية ارتفاع مؤشر العنف يمكن أن نلخصها بجملة واحدة ذكرها وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، عومر بارليف، قبل توليه المنصب حين قال "إن سياستنا هي: طالما أنهم (أي العرب) يقتلون بعضهم البعض لا شأن لنا بهم"!! فهذه العبارة كفيلة بتلخيص كل الواقع الذي نعيشه، والسبب الرئيسي لعدم وجود حل لقضية العنف هو أننا نعيش حالة صراع ما بين نهجين: النهج الأول هو نظرية المؤامرة والاعتقاد السائد لدى 87% من الفلسطينيين في مناطق الـ48 بأن قضية العنف في مجتمعنا هي مؤامرة دولة، من أجل تحييدنا وإشغالنا عن قضايا المساواة والعدالة الاجتماعية، والقضايا الوطنية ومصادرة الأراضي، فهذه كانت القضايا الكبيرة لدى المجتمع العربي قبل تفاقم العنف والجريمة، وهنا لا بد من التركيز على معطى مهم يُظهر بأنه لغاية أحداث أكتوبر 2000 بلغت نسبة الجريمة في المجتمع العربي 4.9%، أما اليوم فتشكّل نسبة الجريمة لدى العرب 68%. والسؤال هو ما الذي جرى قبل عام 2000 وبعده؟ فلو قارنا نسب العنف والجريمة مع الدول العربية (دول الجوار وغيرها) نلاحظ بأن النسبة لدينا أعلى بكثير من سائر الدول العربية، ولو قارناها مع مناطق السلطة الفلسطينية نجد أن نسبة الجريمة هناك 14 قتيلا لكل مليون مواطن، بينما عندنا في الداخل 74 قتيلا لكل مليون مواطن أي أنها أعلى بأضعاف. كذلك هو الحال لو قارنا النسبة مع الأردن أو مع المغرب وهذه الدول مثلنا تجمعها الثقافة العربية والإسلامية، لكن نسبة الجريمة في المغرب العربي أقل من نسبة الجريمة في السويد!

د. نهاد علي

"عرب 48": أنت تقول إن التحول وتفاقم الجريمة في المجتمع العربي بدأ بعد هبّة أكتوبر، سؤالي هو هل هذا التحول مرتبط مباشرة مع هذه الأحداث أم أن هنالك أسباب أخرى ربما انتقال عصابات الإجرام إلى المجتمع العربي بعد القضاء عليها ومحاربتها في المجتمع الإسرائيلي؟

د. علي: إبان أحداث أكتوبر 2000 وكجزء من المؤامرة، تخلّت الشرطة عن المجتمع العربي، والنظريات الاجتماعية تؤكد أن هذا الفراغ الذي تركته الشرطة لا بد أن تملأه سلطة أخرى، فحين خرجت الشرطة دخلت عصابات الجريمة مكانها، وحتى سنة 2000 لم يكن مصطلح عصابات الإجرام موجودا في مجتمعنا! لذلك أنا أدعي أن حرب سيجالوفيتش مع عصابات الإجرام في المجتمع اليهودي هو عمليا لم يقض عليها وإنما جرت عملية تهجير لهذه العصابات من الشارع اليهودي إلى الشارع العربي أي بعبارة أخرى هي عملية "ترانسفير للإجرام" ونقلها من المجتمع اليهودي إلى المجتمع العربي، بعد أن وجدت دفيئة وظروف ملائمة فيها وبغياب الشرطة والرقابة، هكذا بدأت تنمو وتطور مصالحها وأعمالها في أرضية خصبة.

وهناك نظرية العنف الثقافي والادعاء بأن العنف هي صفة متأصلة في ثقافة العرب، وهي النظرية التي عبّر عنها وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي السابق، غلعاد إردان، حين قال "أرى أنه حريّ بي أن أدعي بأن العنف متأصل في ثقافة العرب، وإلا كيف يمكن تفسير تحريض الأم لابنها على قتل شقيقته على خلفية شرف العائلة، أو أنه لدى حدوث أي صراع بين حمولتين، فبدلا من التوجه إلى الشرطة لتقوم بواجبها، تجري هناك عملية ’سباق تسلح’ بين أبناء العائلتين، فهذان دليلان على أن العنف موجود في الثقافة العربية"؛ على حد تعبير إردان.

"عرب 48": سؤال يطرح كل مرة ويعود على نفسه مع تصاعد منسوب العنف والجريمة.. هل فعلا نحن مجتمع عنيف؟

د. علي: لا يوجد مجتمع في العالم خال من العنف، نحن نتحدث عن ظاهرة طبيعية موجودة لدى البشر، لكن السؤال هو ما هي الضوابط الموجودة داخل المبنى الاجتماعي؟ فمجتمعنا كان يتحلى بالتكتل والتكافل الاجتماعي قبل سنوات، وكانت هذه أبرز وأهم مميزاته لكننا افتقدناها وانتقلنا من مجتمع جماعي إلى مجتمع فرداني، ومن دون أي تحضير أو تهيئة الظروف لهذا الانتقال. وأنا أذكر في الماضي البعيد حين يمر معلم المدرسة في الطريق نتوارى ونهرب كي لا يرانا، بينما نحن اليوم نشهد ظاهرة عكسية فحين يكون الطلاب في الطريق فإن المعلم يتجنبهم ولا يجرؤ على توجيه ملاحظة لطلابه!

"عرب 48": حين تكون الشرطة عاجزة أو غير معنية بحل قضية العنف والإجرام في المجتمع العربي، كيف تكون البدائل؟ هل لمؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الأهلية دور، أم يتم تأسيس شرطة من المجتمع العربي تعنى بشؤونه! ما هي الحلول؟

د. علي: أولا يجب أن نعي بأن مجتمعنا يمر بعملية تفكك، نتيجة متغيرات اجتماعية وثقافية واقتصادية، فالمبنى القديم للمجتمع تغير، وليس لدينا تصوّر لشكل المبنى الذي سينشأ، فعلية التمدن التي مررنا بها كانت مفروضة علينا بالقوة وليس باختيارنا، ولم نكن شركاء في اتخاذ القرار بشأن هذه التحولات الطارئة. فنحن عمليا أمام مجتمع آخذ بالتفكك والجمعيات الأهلية فيه ومؤسسات المجتمع المدني ضعيفة جدا ودورها هامشي، والقيادات السياسية ضعيفة جدا، والشرطة ليست فقط غائبة وإنما أيضا فاقدة للثقة. فالجمهور العربي من خلال التجارب فقد ثقته بالشرطة. فهي ليست فقط لا توفر الحلول وإنما هي جزء من المشكلة. اليوم أنا لا أشكك في نوايا وزير الأمن الداخلي ونائبه سيجالوفيتش، ورغبتهما الحقيقية في القضاء على العنف، لكن جهاز الشرطة أكبر منهما وهما غير قادرين على فرض أجندتهما على جهاز الشرطة. والشرطة تقوم بحملات هنا وهناك في البلدات العربية، لكن قضية العنف في المجتمع العربي ليست قضية حملات للشرطة، وانما نحن بحاجة إلى خطة شاملة لمحاربة العنف، هذه الخطة لا بد أن تشمل البعد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

"عرب 48": كنت أود توجيه سؤال لك حول قضية تشديد العقوبات وفرض عقوبات رادعة على القتلة، لكن من سخرية ما يحدث أن الشرطة لا تعتقل الفاعلين لكي تفرض عليهم عقوبات مشددة أو غير مشددة، فمعظمهم طلقاء ونسبة الكشف عن الجرائم ضئيلة لدرجة أنها تكاد لا تذكر؟

د. علي: صحيح، نسبة حل الجريمة في المجتمع لا تتعدى 17% بينما في المجتمع اليهودي تصل إلى 60%. ولكن لهذا السؤال هنالك إجابتان إحداهما أكاديمية وهي أن الدراسات في المجتمع الغربي وصلت إلى نتيجة أنه لا توجد علاقة مباشرة بين التشديد في العقوبة وما بين نسبة الجريمة. أما عندما نستطلع آراء الجمهور في أبحاثنا نجد أن معظم الناس يعطون هذا البعد (التشديد في العقوبة) أهمية قصوى. وللتجسير بين الفكرتين، فإن الأشخاص المتهمين بقضايا العنف يتم اعتقالهم ومن ثم الإفراج عنهم بعد يوم أو يومين، بادعاء عدم وجود أدلة، لذلك أصبحت الفكرة السائدة لدى الجمهور هو أن هذه العصابات ربما أقوى من الشرطة أو أن الشرطة متواطئة معها لذلك فإن الاعتقالات تكون شكلية أو صورية فقط، لذلك فإن التشديد في العقاب لم يعد هو الدلالة الأساسية.

في الأبحاث التي أجريناها مؤخرا حول القضايا التي تقلق الجمهور العربي في البلاد، طرحنا على المواطنين 15 قضية حارقة، منها العنف والجريمة وقضية البطالة وحوادث الطرق والعنف ضد المرأة والقضايا السياسية على أنواعها واتضح لنا أن 82% من الجمهور قلقه الأول هو قضية الجريمة والعنف. فنحن اليوم في خضم تشكيل القائمة المشتركة وما يحدث من عاصفة سياسية كان ينبغي أن يشغل الجميع في المجتمع العربي، لكننا اليوم نرى الجمهور يتحدث عن قتل الصحافي في أم الفحم والأم وابنتها في اللد ويضع القضيّة السياسية الأهم بالنسبة للجمهور العربي جانبا!

وأحذر من أن أحداث العنف في المجتمع العربي لم تصل ذروتها حتى الآن، وأن ذروة العنف ستكون عند اقتراب انتخابات السلطات المحلية المقبلة التي ستسعى من خلالها عصابات الإجرام للسيطرة على مراكز اتخاذ القرارات في السلطات المحلية العربية، وقد نشاهد العنف في أشكال مختلفة من أجل السيطرة على الحكم المحلي.

وأخيرا أود أن أتطرق إلى نقطة أخيرة تتعلق بعدم نجاح وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي ونائبه وقيادة الشرطة، وذلك لأنهم استخدموا نفس الـ"موديل" الذي حاربوا فيه عصابات الإجرام في الوسط اليهودي وهو محاربتهم اقتصاديا، وتجفيف مصادر أموالهم وحساباتهم البنكية وإشراك سلطات الضريبة، لكن هذا النموذج الذي يلائم المجتمع اليهودي لا يصلح تطبيقه على المجتمع العربي، فالجانب الاقتصادي يشكّل بعدا واحدا للقضية وهم اختاروا التركيز على هذا البعد ولذلك فشلت خطتهم.

التعليقات